المجتمع المعــروفي والتاريخ

الفلاسفة نستنتج أن من يكتب التاريخ واحد من اثنين:
1- يذكر الحدث أو الواقعة كما وردت بعد التأكد من صحتها أو مراجعة مصادرها، ثم يربط النتائج بالأسلوب، والعلة بالمعلول، تاركا للقارئ أو الباحث استنباط ما يريد الوصول إليه
يسرد الحدث أو الواقعة بأسلوبه الخاص وطريقته في إيصال المطلوب إلى ذهن القارئ بعد أن يضع عليه رشّة ملح أو بهار، بما يتفق مع أغراضه وسياساته كما يلاحَظ في أبحاث ودراسات المستشرقين ولهذا اختلفت فيه تفسيرات الفلاسفة والعلماء والباحثين حقيقة وعلما
وإذا كان التاريخ كما نقرأه، هو سجل متواصل لتعامل الإنسان مع نفسه ومع غيره ثم مع محيطه، فإن المنطقة الجغرافية المعروفة ببلاد الشام تصلح لأن تكون مثالا حيا لتطبيق هذه المقولة، وكما وصفها جلالة العاهل الأردني المرحوم الحسين بن طلال، طيب الله ثراه:" في هذه البقعة من الأرض المعروفة ببلاد الشام ترعرع التاريخ وازدهر"
وفي البحث في تاريخ الشام نجد أن تاريخ بني معروف يشكل في الحقيقة والواقع جزءا أصيلا من هذا التاريخ، بأبعاده القومية التي تندرج في المحيط العام من جهة، وبمرتكزاته الوطنية المبنية على خصوصية مميزة يتمسكون بها من جهة أخرى. فمنذ أن بدأ استقرارهم في منطقة الشام تميّز موقفهم بالالتزام التام مع الأهداف القومية التي كانت تستدعي رص الصفوف ضد أي خطر داهم، كما حدث مع الخطر الصليبي القادم من الغرب والخطر المغولي الزاحف من الشرق، أو مع التسلط العثماني التي اتسمت سياسته بالعداء المستحكم والصراع القوي بين تسلط المحتل ومقاومة المواطن
لقد عاش الوطن العربي بفعل الإدارة العثمانية عقودا طويلة من الظلم والظلام، خاصة بعد أن بدأت سياسة تركيا ضد الإنسان العربي وقوميته تأخذ حجما وبعدا غاية في التسلط والشراسة والاستغلال، وظهر ذلك بوضوح في ممارسة الولاة الأتراك أقسى أنواع الظلم في مجتمعات بني معروف فكان أن انطلق، المثقفون من أبناء الطائفة العربية الموحدة للمساهمة والمشاركة في تأسيس ونشاط الجمعيات والحلقات الوطنية بهدف مقاومة السياسة التركية أو إصلاحها، وكانت الثورة العربية الكبرى ولادة جديدة للإنسان العربي بعد تلك الغفوة التي امتدت قرونا، كان الإنسان فيها مسكونا بالظلم والجهل والاضطهاد. وكان لبني معروف الدور الواضح والمميز في هذه الثورة منذ بدايتها وخلال مراحلها وحتى مغادرة آخر جندي تركي للأراضي السورية، وكان المجاهدون من أبناء بني معروف هم أول من دخل مدينة دمشق مساء (30) أيلول 1918 ورفعوا العلم العربي فوق سرايا الحكومة، وأهازيجهم تملأ سماء دمشق
في الحكومة الفيصلية في دمشق، وفي الإمارة والمملكة، ساهم بنو معروف مساهمة فعالة، وفي مراكز حساسة. وتولّوا إدارة الحكومات المحلية التي شكّلها الأمير فيصل في لبنان، كما شاركوا في الوفود التي رافقت الأمير إلى مؤتمرات أوروبا لدعم استقلال البلاد. وعندما جاءت اللجنة الدولية لاستفتاء السكان في قبول الانتداب واختيار الدولة التي يريدونها، كان إجماع رجالات بني معروف وشيوخهم في سوريا ولبنان الالتزام بقرار المؤتمر السوري العام أي التمسك بالاستقلال ورفض كل أشكال الانتداب
هذا الرفض تجلى بوضوح في مقاومة فرنسا والوقوف بقوة وصلابة في وجه سياساتها الاستبدادية، وأدى إلى قيام مجاهدي بني معروف بإشعال نيران الثورة ضدها فكانت ثورة (1922) ثم الثورة السورية العامة (1925) وما تبع ذلك من صدامات شملت جميع الأراضي السورية حتى تحقق الاستقلال التام.
إن انتماء أبناء الطائفة العربية الموحدة العريق والصادق لمفهوم العشيرة جعلهم يعشقون الوطن وترابه ويتمسكون بالديرة إلى حد التضحية في سبيل عزتها والمحافظة عليها، فلا يقبلون باستبدالها والتخلي عنها، وحروبهم ضد الدخلاء والغزاة والطامعين شاهد أمين. وقد أشار إلى ذلك المؤرخ فيليب حتي في كتابه "لبنان في التاريخ" قائلا:
في هذا الوطن الجبلي اكتسب الموحدون على مر الأجيال تلك الصفات والمميزات التي عُرفوا بها، في جميع مراحل حياتهم... ولاء صادق للجماعة، تضامن جماعي قوي، حب شديد للحرية والاستقلال، وصبر على تحمّل المكاره والشدائد... (ويعني جبل لبنان وجبل العرب في سوريا)
هذا الانتماء القوي للعشيرة جعل بني معروف، حيثما وجدت مجتمعاتهم، في البلاد العربية أو بلاد الاغتراب يحافظون على أصولهم العربية التي تمدهم بصفات نبيلة ومزايا محمودة فيبقى مجتمعهم متمسكا بفضائل ومحاسن تحسدهم عليها الشعوب والأقوام الأخرى. وهذا ما جعل المؤرخ جواد بولص يقول في كتابه لبنان :" تتميز عائلاتهم بالضيافة المضمونة للغرباء، وباستقامة السلوك والأخلاق، وبفضل ما لديهم من شجاعة وتماسك، حفظوا طوال التاريخ، معتقدهم وخواصهم واستقلالهم"
وفي ها المجال وهذه الصفات كانت شهادة الأعداء تسبق شهادة الأصدقاء، فها الجنرال "ويغان" القائد الأعلى لجيوش فرنسا في الشرق، اثناء الثورة السورية يقول :"... ثم عليك أن تشهد بطهارة حياة الموحدون العائلية، وببشاشتهم في الاحتفاء والضيافة واستقامتهم في الأعمال، وأن تعجب ، كجندي، بشجاعتهم التي لا تقمع وبصلابتهم في المعارك".من الصفات الأصيلة للمجتمع المعروفي أنه يمكن تشبيه هذا المجتمع بمثلث متساوي الساقين:
1- قاعدته تشير إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية التي مر بها أبناء بني معروف في مراحل معينة والانقسامات والصراعات المحلية التي كان لها تأثير واضح عليهم سواء في النفوذ أو المسؤولية أو الحياة العامة
2- الضلع الأيمن ويمثل مجتمع التوحيد من حيث ما يحمله من خصائص في الرئاسة الروحية والقضاء المذهبي ثم دور العبادة والأعياد الدينية
3- الضلع الأيسر ويشير إلى العادات والتقاليد العربية الأصيلة في مجتمع بني معروف والتي يتمسكون بها ويحافظون عليها لأنها جزء أساسي في حياتهم اليومية فجعلوا الشمم والإباء وعزة النفس نبراس حياتهم، واتخذوا من الصدق وإكرام الضيف وحماية الجار، ونجدة المستجير، واحترام الكبار، وإجلال رجال الدين، منهاج حياة وأسلوب تعامل مع غيرهم. ومع التأكيد على المكانة الراقية التي تتمتع بها المرأة المعروفية في مجتمعاتها تقديرا واحتراما فأعطت وكانت صادقة في العطاء، وأوفت فكانت مخلصة في الوفاء.
فهنيئا لبني معروف تاريخهم الحافل بالبذل والعطاء في سبيل العزة والكرامة... وهنيئا للمجتمع المعروفي بأبنائه المحافظين على مآثر السلف – الآباء والأجداد – في حياتهم للتراث والإرث، ورعايتهم العادات والتقاليد بما تحمله من صفات نبيلة وخصائص مميزة، سجلها لهم التاريخ بأحرف من نور وضياء