( العامية ) حرب البقاء. 1918_1850

العامة . كثير من المؤرخين والكتّاب يتحاشون الحديث عنها, ولا ينسون بالمقابل نعتها
بأبشع النعوت. في الوقت الذي يتسابق فيه هؤلاء المؤرخون للجلوس على موائد الخاصة العامرة
بما لذّ وطاب من المؤكلات والمشروبات. وبعد امتلاء البطون, وغالباً الجيوب, تشرع الأقلام السكرى
في تدبيح المقالات وتسويد صفحات الكتب المتحدّثة عن (( فضائل الخاصة )) وكرمها وشجاعتها واريحيتها
وحسن تدبيرها , والى ما هنالك من النعوت.
امّا اؤلئك (( المجانين )) الذين لم تغرهم موائد الخاصة ولم يسلب البابهم الأصفر الرنان ... اؤلئك المجانين,
الذين حرموا انفسهم لذة العيش قانعين بالجلوس على موائد العامة الفقيرة بمأكولاتها الغنية بصدقها وبرائتها
واخلاصها وعزيمتها في الوصول الى حقوقها رغم أنف الظالمين .. اؤلئك (( المجانين )), الذين عقدوا العزم على
الوقوف الى جانب العامة والحياة مع افراحها واتراحها... أؤلئك هم الذين يحيون الحياة السعيدة الصادقة الصافية
وهم يتطلعون بحبور الى ذلك اليوم, الذي يتساوى فيه بنو البشر حيث يوزعون فيه انتاجهم وفق مبدأ العمل
تبعاً لما يقدمه الإنسان من جهد وانتاج, وليس بمقدار مايملك من شطارة وفهلوية او ثروات, لا يعلم الّا الله
والضالعون في العلم كيف جمعها هو أو والده أو جده .....
من يظن ان التاريخ حيادي فهو مخطئ. فالتاريخ منذ ان استثمر الانسان أخاه الانسان أصبح حزبياً منحازاً,
إمّا الى المستثمرين أو المستَثمرين .
العامة ـــــ ومن شدّ أزرها من رجال الفكر وأصحاب المروءة, فهي تخضع للخاصة اما عن خوف او عن قناعةــ مؤمنة
بشرعية ملكية الخاصة, وقدسيتها, وتظطر للسكوت تارةً اخرى ولكنها في النهاية لا بد ان تصل الى الحقيقة,
عندها تبدأ الساعة, ساعة نهوض الجماهير المستثمَرة المسحوقة المعذبة..
وعندما تنهض العامة للتخلص من الاستغلال والظلم والاستبعاد يطلق عليها مؤرخو العامة اسم : تحرك ,
حركة , انتفاضة , عامية , هبة , ثورة ....
اما مؤرخو الطبقات المستغِلة المستثمِرة المستبِدة فيطلقون على نهوض العامة وثوراتها الاسماء التالية :
تمرد , شغب , فوضى , فتنة , عصيان , اعتداء على المقدسات , انتهاك للشرائع والقوانين ... الخ .
وعندها تُحشد الجيوش وتجرد الحملات لاخضاع (( المتمردين )) , (( المشاغبين )) , (( العصاة )) , لاعادتهم
الى بيت الطاعة , اي وضعهم مجدداً في طاحونة الاستثمار الطبقي للفئات العليا الحاكمة .
كلمة العامة دخلت قاموس اللغة في العصر العباسي وسمو بالعامة لكثرتهم اي انهم يشملون القطاع
الأوسع من الشعب .
وصفهم ابن الاثير بــ (( السواد الأعظم )) . ومن معاني العامة : (( السوقة )) , وهي كما يقول الجوهري ( 1001 م )
خلان الملك, بمنزلة الرعية التي تسوقها الملوك . فالمسعودي ( 957 م ) اطلق عليهم اسم (( الغوغاء )) . اما
الصابي والغزالي في تهافت الفلافسة فسماهم بــ (( الجماهير الدهماء )) . ولقبهم ابن عساكر بــ (( الجهّال الاغتام ))
ومن الاوصاف التي اطلقت عليهم : (( الاوباش )) و (( الرعّاع )) وذلك بسبب جهلهم وفقرهم .
أؤلئك السوقة, الجماهير الدهماء الجهّال الاغتام الرعاع . كما تسميهم قواميس الاسياد من الطبقات المستغلة
المستثمرة اجتمعوا في (( مجدل الشور )) قبل اكثر من 120 عام وتعاهدوا ان يكونوا (( متناصرين على كف التعديات عنا )) . فلاحون يعلنون في عام 1888 م في وثيقة مكتوبة سبب تجمعهم وهو (( الافتراءات والطمع والتعديات
الجارية علينا من جهة (( الاسياد )) او بعض المشايخ .
هذه الوثيقة المحررة في 15 شعبان سنة 1306 الموافق لنيسان 1888 م يمر عليها المؤرخون
بذكراها دون دراسة وتقويم . ان وثيقة (( مجدل الشور )) هي مفخرة من مفاخر الحركة الفلاحية العربية
ولا يزال ستار النسيان مسدلاً عليها. كانت وثيقة مجدل الشور بمثابة الارضية الايديولوجية لها .

في هذه المقدمة واعتذر عن الشرح المطوّل , اراد الباحث الدكتور عبدالله حنّا تفسير العامة او العامية
للأخوة المهتمين بمعرفة احداث تلك الفترة من الزمن ,

في المرة القادمة سنتحدث عن الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر
وعن اساليب الاستغلال الاقطاعي لاراضي الميري .

يتبع بإذن الله , دمتم بخير .